حق الكد والسعاية

 

لا يزال يعتقد البعض في ظل التطور والتحضر الحالي أن عقد الزواج بمثابة عقد وكالة يسمح للزوج التصرف في أموال زوجته كيفما يشاء، وأن الذمة المالية لكلا الزوجين تتحد وتصبح بمثابة سلة واحدة لا تفرق بين أموال الزوج وزوجته.

كما أنه ومن جانب آخر، وتبعا ًللاعتقاد السائد أعلاه يواجه المجتمع في كثير من الحالات مفارقات عديدة تتمثل في عدم اعتراف أحد طرفي العلاقة الزوجية بفضل الطرف الآخر عليه ومساعدته على نماء ثروته أو بناءها من الأساس، وهو وراء انتشار الزواج بنية الاستغلال، ومن ثم فقد اجتهد الفقه والقضاء لوضع المبادئ والأحكام الكفيلة في الحد من تلك الظاهرة وفقا ًللعرف والفقه الإسلامي، ومن أهم تلك القواعد ما يعرف ب ” حق الكد والسعاية ” أو ” حق الشقا “، والذي يُعد أول من قَنّن ذلك المبدأ هو التشريع المغربي، في حين أغفلت أغلب البلدان العربية ذلك المبدأ في تشريعاتها، بينما أثيرت ولأول مرة في العام المنصرم من قبل شيخ الأزهر في جمهورية مصر العربية الدكتور/ أحمد الطيب، والذي حث على أهمية إحياء فتوى ” حق الكد والسعاية ” لحفظ حقوق المرأة العاملة، وتبعا ًلذلك فقد أوضح مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية تفاصيل وتأصيل ” حق الكد والسعاية ” من الشريعة الإسلامية، وذلك استعدادا ًإلى تقنينها في قانون الأحوال الشخصية المصري، وادخالها ضمن التعديلات الجديدة عليها.

مفهوم ” حق الكد والسعاية “

لغويا ًفالكد مأخوذ من فعل كدَّ، أي الشدة في العمل وطلب الرزق، والسعاية أصلها من فعل سعى، ودلالة مصطلح الكد والسعاية من الناحية اللغوية تدور حول معاني العمل وبذل الجهد في التحصيل والإنتاج.

واصطلاحا ًعرّفه البعض بأنه حق شخصي يقوم على أساس مساهمة السعاة، في إطار شراكة عرفية، على تنمية الثروة الأسرية أو تكوينها مقابل استحقاقهم جزء من المستفاد يتناسب وقدر مساهمتهم حين إجراء القسمة وفقا ًلمقتضيات العرف المحلي وقواعده.

  تأصيل مبدأ ” حق الـكـد والسعـايـة ” في الشريعة الإسلامية

 ترجع الجذور التاريخية لفتوى « الكد والسعاية » إلى ثورة امرأة في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين وتحديدا ًفي القرن السابع الميلادي الأول هجريًا؛ إذ قدمت حبيبة بنت زريق زوجة عامر بن الحارث، إلى « الفاروق » عمر بن الخطاب، وهي نسّاجة طرّازة ترقم الثياب والعمائم، بينما كان زوجها تاجرا ًيعرض أعمالها ومشغولاتها اليدوية للبيع ومن ثم المتاجرة فيها، وفي نزاع حول حقها بعد وفاة زوجها وترك أراضي ودورا ًوأموالا ًحيث أخذ ورثته مفاتيح المخازن ليتقاسمو الميراث؛ فقامت عليهم حبيبة ونازعتهم لكون هذه الأموال تعود في الأصل لفضل « كدّها وسعايتها » مع زوجها في حياته.

فاختصمت حبيبة بنت زريق، ورثة زوجها لدى الخليفة عمر ابن الخطاب ليحكم بينهم، فقضي لها بالنصف من جملة المال جزاء كدّها وسعايتها إلى جانب حصتها بالربع من النصف الآخر، كنصيبها الشرعي من ميراث الزوج حيث لم ترزق ولدا ًمنه.

 وقد سار على هذا النهج جميع المذاهب الفقهية الإسلامية، إذ أجمعت على مبدأ « حق الكد والسعاية »؛ لا سيما المالكية والحنفية منهم؛ إذ عمل فقهاء المالكية على تأصيل حق الكد والسعاية أو حق الشقا، بأن أجمع مالك بن أنس وأصحابه على أن كل امرأة ذات صنعة وسعاية مثل نسج وغزل ومحمل وغيرها شريكة في ثروة زوجها.

كما أن مبدأ « حق الكد والسعاية » لا يقتصر إعماله على الزوجة وحسب؛ بل يشمل الأبناء والأقارب الذين ساهموا في تنمية واستثمار الأموال محل تركة أي من أفراد الأسرة تطوعا ًدون نصيب أو أجرة معلومة، وبالتالي لهم الحق في الحصول على نصيبهم في الثروة عندما يطالبون به، بمقدار عملهم.

 تقنيـن الـمشرع الإماراتـي لـحق الـكـد والسعـايـة

يُعد المشرع المغربي هو أول من قنن ذلك الحق، وتبعته الدول العربية في ذلك من فترة ليست بالبعيدة، وتم تداوله ومنهم من شرع في تقنينه، ولم يغب المشرع الإماراتي عن ذلك، إذ قنن ذلك المبدأ بغرض الحفاظ على حق كلا الزوجين وحدد وقت الاستحقاق بحلول أحد الأجلين الطلاق أو الوفاة، حيث نص في المادة ( 62 ) من قانون الأحوال الشخصية رقم 28 لسنة 2005 استثناء ًمن قاعدة استقلال ذمة الزوجين على أن ” المرأة الراشدة حرة في التصرف في أموالها، ولا يجوز للزوج التصرف في أموالها دون رضاها، فلكل منهما ذمة مالية مستقلة. فإذا شارك أحدهما الآخر في تنمية مال أو بناء مسكن ونـحوه كان له الرجوع على الآخر بنصيبه فيه عند الطلاق أو الوفاة “.

 وجاءت المذكرة الإيضاحية لقانون الأحوال الشخصية بتفسير النص على أنه ” للمرأة ذمة مستقلة سواء في أهلية الوجوب أو أهلية الأداء ولذلك تكون المرأة الراشدة حرة التصرف في أموالها عند جمهور الفقهاء خلافا ًللمالكية، ولهذا منع القانون الزوج من التصرف في أموالها دون رضاها لأن في ذلك تصرفا ًفي مال الغير لاستقلال ذمة المرأة، ولأن ذمتها مفصولة عن ذمته، إذ ليس في الزواج اتحاد ذمة بين الزوج وزوجته … وأن هذه المادة جاءت بنص جديد يُقرر حق كل من الزوجين في الرجوع على الآخر عند الطلاق أو الوفاة، إذا ما شارك أحدهما الآخر في تجارة أو بناء مسكن أو نـحو ذلك، أخذا ًمن مذهب المالكية “.

نماذج من الواقع العملي

 وبإنزال تلك القاعدة على الواقع العملي في القضايا، نرى أن هناك الكثير من واقع القضايا والحالات التي تعامل معها مكتبنا، تتطلب معه تطبيق قاعدة ” حق الكد والسعاية ” حتى يضمن كل ذي حق حقه.

وهي تهدف إلى حفظ حقوق كل من الزوجين، واستقلال التصرفات المدنية المبرمة بينهما بعيدا ًعن العلاقة الزوجية، فهو ليس حق قاصر على الزوجة، بل يسري تطبيقه على الزوج أيضا ً.

 وهنا يمكننا عرض أحد الدعاوى المثارة حاليا ًبمحاكم دبي تتماثل وقائعها في هذا الشأن : –

نوجزها في أن المدعية من مواطني دولة الإمارات العربية المتحدة وقد تزوجت من المدعى عليه الذي يحمل جنسية أحد دول مجلس التعاون الخليجي، وأثناء قيام الرابطة الزوجية بينهما تقدمت المدعية بطلب الحصول على قرض بناء مسكن من مؤسسة الإسكان على أن يتم سداد القرض وفق برنامج التقسيط الميسر لمواطني الدولة، مقسم ثمنه على مبلغ مقدم ومن ثم الباقي تقسيطا ً، وبحكم سكن الزوجين مع بعضهما فقد ساهم الزوج بمبلغ من ثمن المقدم، وما أن دبت الخلافات ونشبت النزاعات بينهما فقد انتهت علاقتهما بالطلاق خلعا ًوأبرما على إثره اتفاقية صلح تقر فيها المدعية بحق المدعى عليه في مناصفة المنزل مع المدعية استنادا ًإلى المبلغ المدفوع من قبله، وحيث أن المدعى عليه ليس من مواطني دولة الإمارات فقد تعذر تسجيل نصف المنزل باسمه، ولكنهم توصلوا إلى مشاطرة المنزل بين كلا ًمن المدعية والمدعى عليه عينيا ًوإقامة المدعى عليه في النصف الخاص به من المنزل، إلا أنه استحال تنفيذ الاتفاق عينا ًكما استصعب على المدعية رد المبلغ المدفوع من قبل زوجها آنذاك.

ونظرا ًلحق المدعى عليه في المبلغ المدفوع حال تعذر تنفيذ الاتفاق المبرم بينه وزوجته آنذاك في إبقاء المدعى عليه في النصف الآخر من المسكن، بعد زواج المدعية وإقامة الزوج الجديد معها في ذات المسكن، فقد قضى الحكم الخاص بالدعوى أعلاه بإلزام المدعية بأن تؤدي للمدعى عليه المبلغ الذي دفعه لقاء الاتفاق المتعذر تنفيذه، وذلك استنادا ًإلى المادة ( 62 ) من قانون الأحوال الشخصية رقم 28 لسنة 2005 والتي جاءت كتشريع لقاعدة ” حق الكد والسعاية “.

 الخاتمة 

ختاما ً، يمكن إيجاز مفهوم القاعدة القانونية لحق الكد والسعاية على أنها جاءت مؤكدة على استقلال الذمم المالية للزوجين وعدم اتحادها، إلا أنها تجيز وتمكن كلاهما من الحصول أو قسمة ما ساهم به من أموال أو جهد مع الآخر في بناء وتنمية ثروته، سواء من خلال العمل معه دون أجر أو المساهمة بماله الخاص، وذلك بحلول أقرب الأجلين الطلاق أو الوفاة.

ويتضح مما سبق أن المشرع الإماراتي أحاط ووضع حالة مساهمة أحد الزوجين في بناء أو تنمية ثروة الآخر في إطار القواعد الحاكمة للمعاملات المدنية، كمثيلاتها من المعاملات بين غير الزوجين.

ومن ذات المنطلق، يخضع إعمال القاعدة والمبدأ أعلاه لما تم النص عليه في الفقرة الأولى من المادة الأولى من قانون الإثبات الاتحادي رقم 35 لسنة 2022 من أنه ” على المدعي أن يثبت ما يدعيه من حق، وعلى المدعى عليه نفيه “، وبالتالي يقع على أي من الزوجين متى تمسك بـحقه وفقا ًلتلك القاعدة أن يثبت كافة ما ساهم به في ثروة الطرف الآخر من أموال أو جهد، حتى يكون له السند الشرعي في المطالبة بما يدعيه من حق.

 إعداد وتحرير ا/ نورهان أحمد فتحي